فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و(سواء) اسم بمعنى المماثل وأصله مصدر مشتق من التسوية.
وجملة {من أهل الكتاب أمة قائمة} إلخ مبيّنة لإبهام {ليسوا سواء} والإظهار في مقام الإضمار للاهتمام بهؤلاء الأمة، فلأمّة هنا بمعنى الفريق.
وإطلاق أهل الكتاب عليهم مجاز باعتبار ما كان كقوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] لأنهم صاروا من المسلمين.
وعدل عن أن يقال: منهم أمَّة قائمة إلى قوله من أهل الكتاب: ليكون ذا الثناء شاملًا لصالحي اليهود، وصالحي النَّصارى، فلا يختصّ بصالحي اليهود، فإن صالحي اليهود قبل بعثة عيسى كانوا متمسّكين بدينهم، مستقيمين عليه، ومنهم الَّذين آمنوا بعيسى واتّبعوه، وكذلك صالحو النَّصارى قبل بعثة محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا مستقيمين على شريعة عيسى وكثير منهم أهل تهجَّد في الأديرة والصّوامع وقد صاروا مسلمين بعد البعثة المحمدية.
والأمَّة: الطائفة والجماعة.
ومعنى قائمة أنه تمثيل للعمل بدينها على الوجه الحقّ، كما يقال: سوق قائمة وشريعة قائمة.
والآناء أصله أأنْاء بهمزتين بوزن أفعال، وهو جمع إني بكسر الهمزة وفتح النُّون مقصورًا ويقال أنى بفتح الهمزة قال تعالى: {غير ناظرين إنَاه} [الأحزاب: 53] أي منتظرين وقته. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية.
الصفة الأولى: أنها قائمة وفيها أقوال:
الأول: أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وقياما} [الفرقان: 64] وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنك تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ الليل} [المزمل: 20] وقوله: {قُمِ الليل} [المزمل: 2] وقوله: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} [البقرة: 238] والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة.
والقول الثاني: في تفسير كونها قائمة: أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] أي ملازمًا للاقتضاء ثابتًا على المطالبة مستقصيًا فيها، ومنه قوله تعالى: {قَائِمًا بالقسط} [آل عمران: 18].
وأقول: إن هذه الآية دلّت على كون المسلم قائمًا بحق العبودية وقوله: {قَائِمًا بالقسط} يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال: {أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وهذا قول الحسن البصري، واحتج عليه بما روي أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله: إن أناسًا من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: «أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود»، قال الحسن: متحيرون مترددون «أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية» وفي رواية أخرى قال عند ذلك: «إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى، وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوةً وعشيًا والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني» فهذا الخبر يدل على أن الثبات على هذا الدين واجب وعدم التعلق بغيره واجب، فلا جرم مدحهم الله في هذه الآية بذلك فقال: {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}.
القول الثالث: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي مستقيمة عادلة من قولك: أقمت العود فقام بمعنى استقام، وهذا كالتقرير لقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء الليل}:

قال الفخر:
آيات الله قد يراد بها آيات القرآن، وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته والمراد هاهنا الأولى. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ}:

.قال الفخر:

الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} وفيه وجوه:
الأول: يحتمل أن يكون حالًا من التلاوة كأنهم يقرؤن القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن القفال رحمه الله روى في تفسيره حديثًا: أن ذلك غير جائز، وهو قوله عليه السلام: «ألا إني نهيت أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا».
الثاني: يحتمل أن يكون كلامًا مستقلًا والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله تعالى وهو كقوله: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وقياما} [الفرقان: 64] وقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاء الليل ساجدا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الأخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ} [الزمر: 9] قال الحسن: يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه، وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط.
الثالث: يحتمل أن يكون المراد بقوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل والصلاة تسمى سجودًا وسجدة وركوعًا وركعة وتسبيحًا وتسبيحة، قال تعالى: {واركعوا مَعَ الراكعين} [البقرة: 43] أي صلوا وقال: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] والمراد الصلاة.
الرابع: يحتمل أن يكون المراد بقوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي يخضعون ويخشعون لله لأن العرب تسمي الخشوع سجودًا كقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} [النحل: 49] وكل هذه الوجوه ذكرها القفال رحمه الله. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَاءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ}.
ذكر هنا من صفات هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب أنها قائمة. أي: مستقيمة على الحق وأنها تتلو آيات الله آناء الليل وتصلي وتؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وذكر في موضع آخر أنها تتلو الكتاب حق تلاوته وتؤمن بالله وهو قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121].
وذكر في موضع آخر أنهم يؤمنون بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم وأنهم خاشعون لله لا يشترون بآياته ثمنًا قليلًا. وهو قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 199]. وذكر في موضع آخر أنهم يفرحون بإنزال القرآن وهو قوله تعالى: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36]، وذكر في موضع آخر أنهم يعلمون أن إنزال القرآن من الله حق، وهو قوله: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أنه مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق} [الأنعام: 114] الآية، وذكر في موضع آخر أنهم إذا تلي عليهم القرآن خروا لأذقانهم سجدًا وسبحوا ربهم وبكوا، وهو قوله: {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107- 109].
وقال في بكائهم عند سماعه أيضا: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} [المائدة: 83] وذكر في موضع آخر أن هذه الطائفة من أهل الكتاب، تؤتى أجرها مرتين وهو قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ أنه الحق مِن رَّبِّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} [القصص: 51- 54]. اهـ.

.قال الثعالبي:

روى أبو هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قَالَ: «يَنْزِلُ رَبَّنَا تَبَارَكَ وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي؛ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي؛ فَأُعْطِيهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي؛ فَأَغْفِرَ لَهُ» رواه الجماعةُ، أعني: الكتبَ الستَّة؛ البخاريَّ، ومُسْلِمًا، وأبا داوُدَ، والتِّرمذيَّ، والنَّسائيَّ، وابْنَ ماجه، وفي بعضِ الطُّرُق: «حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ»، زاد ابْنُ ماجه: «فَلِذَلِكَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الصَّلاَةَ آخِرَ اللَّيْلِ على أَوَّلِهِ».
وعن عمرو بْنِ عَبَسَة أنه سَمِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فإنِ استطعت أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ الله فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَكُنْ» رواه أبو داوُد، والتِّرمذيُّ، والنَّسَائِيُّ، والحَاكِمُ في المستدرك، واللفظ للتِّرمذيِّ، وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ مُسْلِمٍ. اهـ. من السلاح.
وعن أبي أُمَامَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرَ، ودُبُرَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ»، رواه الترمذيُّ والنسائيُّ، وقال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ، وفي روايةٍ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرَ أرجى»، أو نحو هذا. اهـ من السلاح.
ومما يدْخُلُ في ضِمْنِ قوله سبحانه: {ويسارعون فِي الخيرات}؛ أن يكون المرءُ مغْتَنِمًا للخَمْس؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ»؛ فَيَكُونُ متى أَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ خَيْرًا، بادر إليه، ولم يسوِّف نفسه بالأمل، فهذه أيضا مسارعةٌ في الخيرات، وذكر بعض النَّاس قال: دخلْتُ معَ بَعْضِ الصَّالحين في مَرْكَبٍ، فقُلْتُ له: ما تقُولُ (أصْلَحَكَ الله) في الصَّوْمِ في السَّفر؟ فقال لي: إنها المبادرةُ، يا ابْنَ الأخِ، قال المحدِّث: فجاءني، والله، بجوابٍ ليس من أجوبة الفُقَهَاء. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} صِفَةٌ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ فَكَانُوا مِمَّنْ قَالَ الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ وُجُوبِ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تَجِبُ إزَالَةُ الْمُنْكَرِ مِنْ طَرِيقِ اعْتِقَادِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ كَمَا وَجَبَ فِي سَائِرِ الْمَنَاكِيرِ مِنْ الْأَفْعَالِ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ دَاعِيًا إلَى مَقَالَتِهِ فَيُضِلُّ النَّاسَ بِشُبْهَتِهِ فَإِنَّهُ تَجِبُ إزَالَتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا أَمْكَنَ.
وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ دَاعٍ إلَيْهَا فَإِنَّمَا يُدْعَى إلَى الْحَقِّ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْحَقِّ وَتَبَيُّنِ فَسَادِ شُبْهَتِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ بِسَيْفِهِ وَيَكُونُ لَهُ أَصْحَابٌ يَمْتَنِعُ بِهِمْ عَنْ الْإِمَامِ فَإِنْ خَرَجَ دَاعِيًا إلَى مَقَالَتِهِ مُقَاتِلًا عَلَيْهَا فَهَذَا الْبَاغِي الَّذِي أَمَرَ الله تعالى بِقِتَالِهِ حَتَّى يَفِيءَ إلَى أَمْرِ الله تعالى.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ الله وَجْهَهُ أنه كَانَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْكُوفَةِ يَخْطُبُ فَقَالَ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ، فَقَطَعَ خُطْبَتَهُ وَقَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ، أَمَا إنَّ لَهُمْ عِنْدَنَا ثَلَاثًا أن لا نَمْنَعَهُمْ حَقَّهُمْ مِنْ الْفَيْءِ مَا كَانَتْ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَا نَمْنَعَهُمْ مَسَاجِدَ الله أَنْ يَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَهُ، وَلَا نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا.
فَأَخْبَرَ أنه لَا يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا وَكَانَ ابْتَدَأَهُمْ عَلِيٌّ كَرَّمَ الله وَجْهَهُ بِالدُّعَاءِ حِينَ نَزَلُوا حَرُورَاءَ وَحَاجَّهُمْ حَتَّى رَجَعَ بَعْضُهُمْ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي سَائِرِ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ مَا لَمْ يَخْرُجُوا دَاعِينَ إلَى مَذَاهِبِهِمْ لَمْ يُقَاتَلُوا، وَأَقَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ كُفْرًا، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إقْرَارُ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِ إلَّا بِجِزْيَةٍ.
وَلَيْسَ يَجُوزُ إقْرَارُ مَنْ كَفَرَ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ لِإِعْطَائِهِ بَدِيًّا جُمْلَةَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ، فَمَتَى نَقَضَ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ صَارَ مُرْتَدًّا.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ، فَتَجُوزُ عِنْدَهُ مُنَاكَحَاتُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَوِّجُوهُمْ وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُنْتَحِلُونَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ انْتَحَلَ النَّصْرَانِيَّةَ أَوْ الْيَهُودِيَّةَ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمْسِكًا بِسَائِرِ شَرَائِعِهِمْ؛ وَقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ فِي بَعْضِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَكْفُرُ أَهْلُهَا، كَانَ فِي وَصَايَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ، يَجُوزُ مِنْهَا مَا يَجُوزُ مِنْ وَصَايَا الْمُسْلِمِينَ وَيَبْطُلُ مِنْهَا مَا يَبْطُلُ مِنْ وَصَايَاهُمْ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُقِرُّوا عَلَى نِفَاقِهِمْ مَعَ عِلْمِ الله تعالى بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ؛ وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَوْ وَقَفْنَا عَلَى نِفَاقِهِمْ لَمْ نُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ نَقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا الإسلام أَوْ السَّيْفَ.
وَأَهْلُ الذِّمَّةِ إنَّمَا أَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ الْمُنْتَحِلِينَ لِلْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، فَحُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ مَتَى وَقَفْنَا عَلَى مَذْهَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا يَقْتَصِرُ فِي إجْرَائِهِ حُكْمَ الْكُفَّارِ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظٍ عَسَى أن يكون غَلَطُهُ فِيهِ دُونَ الِاعْتِقَادِ دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ عَنْ ضَمِيرِهِ فَيُعْرِبَ لَنَا عَنْ اعْتِقَادِهِ بِمَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الِاسْتِتَابَةِ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ وَالله أَعْلَمُ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
الظاهر في هذه أنّ الوقف على {سَوَاءٌ} تام؛ فإن الواو اسم ليس و{سواء} خبر، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم.
ولا معنى: أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر؛ لقوله: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110]، فانتفى استواؤهم.
و{سواء}- في الأصل- مصدر، ولذلك وُحِّدَ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة.
قال أبو عبيدة: الواو في {لَيْسُوا} علامة جمع، وليست ضميرًا، واسم ليس- على هذا- {أمة} و{قَائِمَةٌ} صفتها، وكذا {يَتْلُونَ}، وهذا على لغة أكلوني البراغيث.
كقول الآخر: [المتقارب]
يَلُومَونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخِي ** لِ أهْلِي، فَكُلُّهُمْ بعَذْلِ أَلُومُ

قالوا: وهي لغة ضعيفة، ونازع السُّهَيْلِيّ النحويين في كونها ضعيفةً، ونسبها بعضُهم إلى شنوءة، وكثيرًا ما جاء عليها الحديث، وفي القرآن مثلُها. وسيأتي تحقيقها في المائدة.
قال ابنُ عطية: وما قاله أبو أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ، ولم يبيِّن وَجْهَ الخطأ، وكأنه توهم أن اسم ليس هو {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} فقط، وأنه لا محذوفَ ثَمَّ؛ إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية، فإذا قُدِّر- ثَمَّ- محذوف لم يكن قول أبي عبيدةَ خطأً مردودًا إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة وقد تقدم ما فيها. والتقدير الذي يصح به المعنى: أي: ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة، موصوفة بما ذُكِرَ، وأمة كافرة، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ.